فصل: الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الصِّفَةُ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ إِلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الصِّفَةُ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ إِلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ:

لِأَنَّهَا إِنَّمَا يُؤْتَى بِهَا لِلْبَيَانِ وَالتَّخْصِيصِ أَوِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَهَذَا فِي مَوْضِعِ الْإِطَالَةِ لَا الِاخْتِصَارِ فَصَارَ مِنْ بَابِ نَقْصِ الْغَرَضِ.
وَقَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: عِنْدِي أَنَّ الْبَيَانَ حَصَلَ بِالصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ مَعًا فَحَذْفُ الْمَوْصُوفِ يُنْقِصُ الْغَرَضَ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْقَعَ لَبْسًا أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: مَرَرْتُ بِطَوِيلٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ قَوْسٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُ ظُهُورًا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ}.
قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَلَا فَرْقَ فِي صِفَةِ النَّكِرَةِ بين أن يذكر معها أولا.
قَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِشَيْءٍ.

.الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْبَدَلُ:

وَالْقَصْدُ بِهِ الْإِيضَاحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَهُوَ يُفِيدُ الْبَيَانَ وَالتَّأْكِيدَ أَمَّا الْبَيَانُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَخَاكَ بَيَّنْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ بِزَيْدٍ الْأَخَ لَا غَيْرَ وَأَمَّا التَّأْكِيدُ فلأنه عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبْتُ زَيْدًا جَازَ أَنْ تَكُونَ ضَرَبْتَ رَأْسَهُ أَوْ يَدَهُ أَوْ جَمِيعَ بَدَنِهِ فَإِذَا قُلْتَ (يَدَهُ) فَقَدْ رَفَعْتَ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ فالبدل جار مجرى التأكيد الدلالة الأولى عليه أو المطابقة كما بَدَلِ الْكُلِّ أَوِ التَّضَمُّنِ كَمَا فِي بَدَلِ الْبَعْضِ أَوِ الِالْتِزَامِ كَمَا فِي بَدَلِ الِاشْتِمَالِ فَإِذَا قُلْتَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ فَكَأَنَّكَ قَدْ ذَكَرْتَ الرَّأْسَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِالتَّضَمُّنِ وَأُخْرَى بِالْمُطَابَقَةِ وَإِذَا قُلْتَ: شَرِبْتُ مَاءَ الْبَحْرِ بَعْضَهُ فَإِنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِكَ: شَرِبْتُ مَاءَ الْبَحْرِ أَنَّكَ لَمْ تَشْرَبْهُ كُلَّهُ فَجِئْتَ بِالْبَعْضِ تَأْكِيدًا.
وَهَذَا معنى قول سيبويه: ولكنه بني الِاسْمَ تَأْكِيدًا وَجَرَى مَجْرَى الصِّفَةِ فِي الْإِيضَاحِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ أَبَا عَمْرٍو زَيْدًا ورأيت غلامك زيدا ومررت بِرَجُلٍ صَالِحٍ زَيْدٍ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْرِفُهُ بِأَنَّهُ غُلَامُكَ أَوْ بِأَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ زَيْدٌ وَعَلَى الْعَكْسِ فَلَمَّا ذَكَرْتَهُمَا أُثْبِتَ بِاجْتِمَاعِهِمَا الْمَقْصُودُ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: وإنما يذكر الأولى لِتَجُوزَ التَّوْطِئَةُ وَلِيُفَادَ بِمَجْمُوعِهِمَا فَضْلُ تَأْكِيدٍ وَتَبْيِينٍ لَا يَكُونُ فِي الْإِفْرَادِ.
وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: لَيْسَ كُلُّ بَدَلٍ يُقْصَدُ بِهِ رَفَعُ الْإِشْكَالِ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ بَلْ مِنَ الْبَدَلِ مَا يُرَادُ بِهِ التَّأْكِيدُ وَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ غَنِيًّا عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الصِّرَاطَ الثاني لم يشك أجد أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ مِنَ الْبَدَلِ مَا الْغَرَضُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ وَلِهَذَا جَوَّزُوا بَدَلَ الْمُضْمَرِ من المضمر كلقيته أباه انتهى.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّفَةِ أَنَّ الْبَدَلَ فِي تَقْدِيرِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ وَكَأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ مِنْ جُمْلَتَيْنِ بِدَلِيلِ تَكَرُّرِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لمن آمن منهم} وَبِدَلِيلِ بَدَلِ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُظْهَرِ مِنَ الْمُضْمَرِ وَهَذَا مِمَّا يَمْتَنِعُ فِي الصِّفَةِ فَكَمَا أُعِيدَتِ اللَّامُ الْجَارَّةُ فِي الِاسْمِ فَكَذَلِكَ تَكْرَارُ الْعَامِلِ الرَّافِعِ أَوِ النَّاصِبِ فِي تَقْدِيرِ التَّكْرَارِ وَهُوَ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَبْيِينٌ لِلْأَوَّلِ كَالصِّفَةِ.
وَقِيلَ لِأَبِي عَلِيٍّ: كَيْفَ يَكُونُ الْبَدَلُ إِيضَاحًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ جُمْلَتِهِ؟ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَظْهَرِ الْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَاتَّصَلَ الْبَدَلُ بِالْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي اللَّفْظِ جَازَ أَنْ يُوَضِّحَهُ.
وَمِنْ فَوَائِدِ الْبَدَلِ التَّبْيِينُ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ فَقَوْلُكَ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى أَكْرَمِ النَّاسِ وَأَفْضَلِهِمْ فُلَانٌ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: فُلَانٌ الْأَكْرَمُ وَالْأَفْضَلُ بِذِكْرِهِ مُجْمَلًا ثُمَّ مُفَصَّلًا.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْوَاحِدِيُّ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ نَحْوَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا} يُسَمَّى هَذَا بَدَلَ الْبَيَانِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْبَدَلِ إِنْ أُرِيدَ الْبَعْضُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ الْبَدَلَيْنِ أَعْنِي بَدَلَ الْبَعْضِ وَبَدَلَ الِاشْتِمَالِ بَيَانًا وَتَخْصِيصًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَفَائِدَةُ الْبَدَلِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَصِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالْعُمُومِ وَالثَّانِيَةُ بِالْخُصُوصِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الذين} {آمنا برب العالمين رب موسى وهارون}.
وقوله: {لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة} وفائدة الجمع بينهما أن الأولى ذكرت للتخيص عَلَى نَاصِيَةٍ وَالثَّانِيَةَ عَلَى عِلَّةِ السَّفْعِ لِيَشْمَلَ بِذَلِكَ ظَاهِرَ كُلِّ نَاصِيَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا.
وَيَجُوزُ بَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صراط الذين}.
وَبَدَلُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ: {بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كاذبة} قَالَ ابْنُ يَعِيشَ: وَلَا يَحْسُنُ بَدَلُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ حَتَّى تُوصَفَ كَالْآيَةِ لِأَنَّ الْبَيَانَ مُرْتَبِطٌ بِهِمَا جَمِيعًا.
وَالنَّكِرَةُ مِنَ النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أترابا وكأسا دهاقا} فَحَدَائِقَ وَمَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنْ (مَفَازًا).
وَمِنْهُ قوله تعالى: {وغرابيب سود} فَإِنَّ سُودٌ بَدَلٌ مِنْ غَرَابِيبُ لِأَنَّ الْأَصْلَ سُودٌ غَرَابِيبُ فَغَرَابِيبُ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِسُودٍ وَنُزِعَ الضَّمِيرُ مِنْهَا وَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهَا الَّذِي كَانَ مَوْصُوفًا بِهَا كَقَوْلِهِ تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا} وقوله: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} فَهَذَا بَدَلُ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ مِنْ أُخْرَى مَوْصُوفَةٍ فِيهَا بَيَانُ الْأُولَى.
وَمِثْلُ إِبْدَالِ النَّكِرَةِ الْمُجَرَّدَةِ مِنْ مِثْلِهَا مُجَرَّدَةٍ وَبَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} لِأَنَّ (صِرَاطِ اللَّهِ) مُبَيِّنٌ إِلَى الصِّرَاطِ.
الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّ مَجِيءَ الْخَاصِّ وَالْأَخَصِّ بَعْدَ الْعَامِّ وَالْأَعَمِّ كَثِيرٌ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْحَذَّاقُ فِي قوله تعالى: {ما يلفظ من قول} إِنَّهُ لَوْ عُكِسَ فَقِيلَ (مَا يَقُولُ مِنْ لَفْظٍ) لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْقَوْلَ أَخَصُّ مِنَ اللَّفْظِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُسْتَعْمَلِ وَاللَّفْظُ يَشْمَلُ الْمُهْمَلَ الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ.
وَقَدْ يَجِيءُ لِلِاشْتِمَالِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدَلِ الْبَعْضِ أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْبَعْضِ جَرَّ فِي الِاشْتِمَالِ وَصْفًا كَقَوْلِهِ: {وَمَا أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} فَإِنَّ أَذْكُرَهُ بِمَعْنَى (ذِكْرَهُ) وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ فِي {أَنْسَانِيهِ} الْعَائِدَةُ إِلَى الْحُوتِ وَتَقْدِيرُهُ: (وَمَا أَنْسَانِي ذِكْرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ).
وَقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عن الشهر الحرام قتال فيه} فَـ: {قِتَالٍ} بَدَلٌ مِنَ (الشَّهْرِ) بَدَلَ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْقِتَالِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَمَا كَانَ زَيْدٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْعَقْلِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْقِتَالِ فِيهِ فَجَاءَ بِهِ تَأْكِيدًا.
وَقَوْلِهِ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود النار} فَالنَّارُ بَدَلٌ مِنَ (الْأُخْدُودِ) بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّارِ وَغَيْرِهَا وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ (الْمُوقَدَةُ فِيهِ).
وَمِنْ بَدَلِ الْبَعْضِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سبيلا} فَالْمُسْتَطِيعُونَ بَعْضُ النَّاسِ لَا كُلُّهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: بَلْ هَذِهِ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفِ الْحَجَّ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُهُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ بَعْضَهُمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جمعوا لكم} فِي أَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خَاصٌّ لِأَنَّ {النَّاسَ} فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ لَمَا انْتَظَمَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: {إِنَّ النَّاسَ} فَعَلَى هَذَا هُوَ عِنْدَهُ مُطَابِقٌ لِعِدَّةِ الْمُسْتَطِيعِينَ فِي كَمِّيَّتِهِمْ وَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ لَا جَمِيعُهُمْ.
وَالصَّحِيحُ مَا صَارَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِأَنَّ بَابَ الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ فِي الثَّانِي بَيَانٌ لَيْسَ فِي الْأَوَّلِ بِأَنْ يُذْكَرَ الْخَاصُّ بَعْدَ الْعَامِّ مُبَيِّنًا وَمُوَضِّحًا.
وَلَا بُدَّ فِي إِبْدَالِ الْبَعْضِ مِنْ ضَمِيرٍ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا دَفْعُ الله الناس بعضهم ببعض} {ويجعل الخبيث بعضه على بعض}.
وَقَدْ يُحْذَفُ لِدَلِيلٍ كَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حج البيت من استطاع} (مِنْهُمْ) وَهُوَ مُرَادٌ بِدَلِيلِ ظُهُورِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ من آمن منهم} فَـ: {مَنْ آمَنَ} بَدَلٌ مِنْ {أَهْلِهِ} وَهُمْ بَعْضُهُمْ.
وَقَدْ يَأْتِي الْبَدَلُ لِنَقْلِ الْحُكْمِ عَنْ مبدله نحو: جاء القوم أكثرهم وأعجبني زَيْدٌ ثَوْبُهُ وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: وَلَا يَصِحُّ (غِلْمَانُهُ).
وَعَدَلَ عَنِ الْبَدَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يعقلون} لِأَنَّهُ أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ فِي الْحَالِ الثاني وهو {ولو أنهم صبروا} فَلَوْ أُبْدِلَ لَأَوْهَمَ بِخِلَافِ (إِنَّكَ أَنْ تَقُومَ خَيْرٌ لَكَ) الْبَدَلُ أَرْجَحُ.
وَالْبَدَلُ فِي تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَلَيْسَ كَالصِّفَةِ وَلَكِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ بِدَلِيلِ تَكْرِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ.
قَدْ يُكَرَّرُ عَامِلُهُ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} فَـ: {طَلْعِهَا} بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ {النَّخْلِ} وَكَرَّرَ الْعَامِلَ فِيهِ وَهُوَ (مِنْ).
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لمن آمن منهم} {لِمَنْ آمَنَ} بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ مِنَ {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَقَدْ كَرَّرَ اللَّامَ.
وَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سقفا من فضة} فَقوله: {لِبُيُوتِهِمْ} بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ اللَّامَ الْأُولَى لِلْمِلْكِ وَالثَّانِيَةَ لِلِاخْتِصَاصِ فَعَلَى هَذَا يَمْتَنِعُ الْبَدَلُ لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الْحَرْفَيْنِ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَكُونُ لَنَا عيدا لأولنا وآخرنا} فَـ: {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي {لَنَا} وَقَدْ أُعِيدَ مَعَهُ الْعَامِلُ مَقْصُودًا بِهِ التَّفْصِيلُ.
وَمِنْهُ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها} قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: جَازَ إِبْدَالُ الثَّانِيَةِ مِنَ الْأُولَى لِأَنَّ فِي الثَّانِيَةِ ذِكْرُ سَبَبِ الْجُثُوِّ.
قِيلَ: وَلَمْ يَظْهَرْ عَامِلُ الْبَدَلِ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ إِيذَانًا بِافْتِقَارِ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ فإن حروف الجر مفتقرة ولم يظهروا الفعل إذا لَوْ أَظْهَرُوهُ لَانْقَطَعَ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ لَأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْفِعْلِ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إِظْهَارِ الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَإِنْ كَانَ رَافِعًا أَوْ نَاصِبًا فَفِيهِ خِلَافٌ وَالْمُجَوِّزُونَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أمدكم} يجوز أَنْ يَكُونَ {أَمَدَّكُمُ} الثَّانِي بَدَلًا مَنْ {أَمَدَّكُمْ} الْأَوَّلِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ إِبْدَالِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْجُمْلَةِ وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ صِلَةَ (الَّذِي) كَالْأُولَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ شَارِحَةً لِلْأُولَى كَقَوْلِكَ ضَرَبْتُ رَأْسَ زَيْدٍ قَذَفْتُهُ بِالْحَجَرِ ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ} أبدل قوله: {اتبعوا من لا يسألكم} من قوله: {اتبعوا المرسلين} لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَلَطُّفًا فِي اقْتِضَاءِ اتِّبَاعِهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ له العذاب} فَـ: {يَلْقَ} مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْأَلِفِ لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهُ {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} فبين بها الأثام ما هو.

.تقسيم البدل باعتبار آخر:

وَيَنْقَسِمُ الْبَدَلُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى بَدَلِ مُفْرَدٍ مِنْ مُفْرَدٍ وَجُمْلَةٍ مِنْ جُمْلَةٍ وَقَدْ سَبَقَا وَجُمْلَةٍ مِنْ مُفْرَدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَثَلِ آدَمَ خلقه من تراب} وَقَوْلِهِ: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} وَجَازَ إِسْنَادُ {يُقَالُ} إِلَى مَا عَمِلَتْ فِيهِ كَمَا جَازَ إِسْنَادُ {قِيلَ} فِي {وَإِذَا قِيلَ إن وعد الله حق} وَمِنْ إِبْدَالِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُفْرَدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ {النَّجْوَى}.
وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ بَيَانٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما يضاعف له العذاب} الْآيَةَ.
وَالرَّابِعُ: بَدَلُ الْمُفْرَدِ مِنَ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أنهم إليهم لا يرجعون} فَـ: {أَنَّهُمْ} بَدَلٌ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ وَعَدَمَ الرُّجُوعِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ بَدَلًا لَكَانَ مَعَهُ الِاسْتِفْهَامُ؟
قِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مَعْنَوِيٌّ.